في لا جدوى عقاب سيزيف السوري
صحيفة “القدس العربي”: المثنى الشيخ عطية
في مقاربة مذهلة، بين أسطورة سيزيف كما عرضها ألبير كامو في دراسته لفلسفة اللا جدوى بكتابه أسطورة سيزيف، وواقع سجين رأي سوري كان قد اتخذ موقفاً صعباً يعرف أنه يودي به إلى السجن إن لم يكن الموت، وتساءل الكثيرون عن جدوى هذه التضحية ‘المجانية’ في رأيهم.
يروي سجين الرأي السابق رياض الترك، في فيلم ابن العم الذي أخرجه محمد علي أتاسي عام 2001 وعرضته قناة العربية مؤخراً، تجربة سجنه المذهلة دون محاكمة، طيلة ثمانية عشر عاماً في عهد حافظ الأسد، قضاها في زنزانة منفردة لم يعرف العالم مكانها في مبنى المخابرات العسكرية المرعب المسمى فرع فلسطين، والمرقّم بـ 235، إلا بعد خروج الرجل من السجن، ويحدّد السجين مسألةً حساسة ومرعبة في معايشة الواقع ومعالجات الفن هي مسألة الزمن الذي يتوقف بالنسبة لسجين الانفرادي، ويودي به وفقاً لتقديرات علماء نفس إلى الخلل العقلي بعد السنوات العشر من وجوده في هذه الحالة…
ومثلما حددت الآلهة عقاب سيزيف الذي سرق نار المعرفة وقدّمها للإنسان، بانتهاء الزمن الذي يدور على نفسه حيث على سيزيف أن يدحرج صخرةً صعوداً إلى أعلى الجبل لتنحدر إلى مكانها في الأسفل عند بلوغها القمة ويعود لرفعها مرة أخرى وإلى ما لانهاية.. ابتكر رياض الترك كما يروي صخرته التي تضعه على صراط معنى دوران الزمن، في سكون السجن الذي وضعوه فيه، من أجل استبدال موت المعنى بخلقه لقهر هذا الموت، وياللمصادفة!.. أن تكون صخرة رياض الترك الأحجار الصغيرة التي تشوب شوربة عدس السجون السورية، والتي حوّلها السجين من عامل إذلال له بتقديم طعام رديء غير نظيف إلى عنصر مقاومة، صغير لكنه هائل الفعل، إذ وقاه من الاختلال طيلة أيام سجنه التي تسيل فيها الساعات كما لو كانت كابوساً سيريالياً خارجاً من مخيلة سلفادور دالي…
بعد تنحيته، كما يروي، لتساؤلات ما يحدث في العالم الخارجي من ذهنه كي لا تقتله كوابيس القلق على عائلته ورفاقه، ركّز السجين على سؤال واحد هو: ماذا أفعل لقهر هذا السكون؟.. وابتدأ البحث في داخله وفي ما بين يديه من مكونات الزنزانة…
في داخله وجد السجين موهبة رسم أبعدته عنها السياسة ومشاغل الحياة، وفي ما بين يديه وجد السجين حبات حجر صغيرة في شوربة العدس. قام بجمعها وإكثار عددها لقمة بعد لقمة، ومع عدم وجود حامل للرسم أو لاصق، بدأ بصفّها على سرير الزنزانة/ قماش لوحته الوحيد، مشكلاً منها لوحةً تبقى ما بين وجبة الطعام والوجبة القادمة، حيث لا مكان على السرير ولا غراء للصق وتثبيت حبات الحجر، وكأن القدر، ولا شرط أن يكون مدرَكاً، يعيد إحياء أسطورة صخرة سيزيف التي تهوي من علٍ حال وصولها إلى القمة، بلوحات حبات الحجر التي تزول حال قدوم الوجبة التالية، وحال هجوع السجين إلى النوم، مع حسرة الفنان وتمنّيه أن لا تأتي وجبة الغداء كي يستمرّ في تشكيل لوحته، لكنه القدر، قدر سكون السجن والقدر الذي صنعه السجين لمقاومة هذا السكون، بزوال تشكيلات اللوحة والبدء من جديد برفع صخرة سيزيف التي تحط لتستمرّ أسطورة الإنسان في مقاومته للفناء…
في حالة مقاومة عطالة السكون التي يعرضها رياض الترك ببساطة، تلتقي عوالم الواقع والفن بصورة غريبة تسعد الحالمين وتعطيهم مبرراً للقناعة بأن كل شيء مرتّب لغاية، كما تسعد النقاد المولعين باكتشاف تشابك وتقارب العلاقات الغريبة وتعطيهم فرصة اكتشاف تأثير الفن في الواقع مع إسباغ متعة الاكتشاف على النقد والتذوّق…
فمن جهة الموقف وجدواه.. خاض رياض الترك مع حزبه تجربة مهمة في محاولة نقل هذا الحزب مع اليسار السوري إلى تبني الديمقراطية، وبلور على هذا الأساس مع القوى الوطنية الديمقراطية في نهاية السبعينات برنامجاً سياسياً يهدف إلى إقامة نظام وطني ديمقراطي في سورية، ولأن هذا هو مقتل النظام الاستبدادي الشمولي، قام حافظ الأسد بضرب هذه القوى، مستغلاً صراعه المسلّح الذي اختلقه مع الإخوان المسلمين، واعتقل معظم أفراد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي، وعلى رأسهم رياض الترك الذي طلب منه النظام إصدار بيان يدين فيه الإخوان المسلمين، وكان هذا يعني خياراً صعباً أمام طريقين يؤدي أولهما بانتهاء الحزب وتجربته في الكفاح لإقامة نظام وطني ديمقراطي، ويؤدي الثاني بصاحب الموقف إلى السجن وربما الموت، واختار الرجل العلماني بتضحية نادرة رفض إصدار هذا البيان بحق دينيين، والاستمرار في السجن والموت ضارباً مثلاً في التضحية من أجل التعددية و’الاستعداد للموت دفاعاً عن حق الآخر في تعبيره عن رأيه مهما كان الاختلاف’…
ومن جهة العقاب وجدواه، ترتّب على موقف هذا الرجل أن يتحمّل مرارة اتهامه وحزبه تلفيقاً من قبل حافظ الأسد بالتعاون مع الإخوان المسلمين لتصفيته هو وحزبه نفياً وسجناً وقتلاً داخل السجون، مع مرارة خذلان بعض قوى اليسار بتبنيهم لهذا الاتهام واتهام رفاقهم بـ ‘المغامرة المجانية’، إضافة إلى سجنه وإخفاء مكانه عن العالم.. وكان عليه مقاومة هذا القتل بالبحث عن عناصر المقاومة في داخله وفي ما حوله، ليكتشف بممارسة بسيطة لا تحتاج إلى ابتكار إذ هي موجودة داخل الإنسان، فعل الفن في إعلاء الروح وإنقاذ الفنان من الجنون أو الانتحار، وليعيد دون تخطيط منه إذ تتضافر قوى التاريخ والثقافة الجمعية الإنسانية بصورة توحي بالقدرية، إحياء أسطورة مقاومة الإنسان للفناء، باستخدام أسلحة الفناء نفسها في هذه المقاومة، وكأن العقل والجسد الإنساني يجمدان الزمن بالفن من أجل هزيمة تجميد الزمن…
ومن جهة القيمة وجدواها.. منع الموقف الصامد لهذا الرجل خوف المترددين من أن يؤثر على وحدة حزبه أمام الضربة العنيفة التي طالت قيادته الأولى، ودفع المنظمات الإنسانية ولجان حقوق الإنسان أن تطالب السلطات السورية بالكشف عن مصيره وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وأثر في تغير مواقف وبرامج العديد من القوى الشمولية ومنها الإخوان المسلمون الذين عرفوا قيمة التعددية والقبول بالآخر، كما ساهم في دفع توجهات الأدب والفن للارتباط بالدفاع عن الإنسان، ليضفي هذا الموقف في النتيجة بعداً إنسانياً على قوانين الديالكتيك، التي لاتعترف بوجود ماهو مجاني في حركة الحياة، فكل شيء يخضع للتراكم الكمي، ويخلق بهذا التراكم في لحظة بلوغه ذروته تغيّر الكمّي إلى نوعي، ويبدو أن مراكمة القهر من قبل النظام والأفعال النبيلة من قبل شهداء ورجال المعارضة والتفاعل الإنساني مع المقهورين، بلغت ذروتها عبر امتداد تاريخ القهر والتضحيات، في صوت ضربة كف شرطي على خدّ شاب سوري في الحريقة بدمشق، لتشعل نار الهتاف الصارخ أن ‘الشعب السوري ماينهان’، ولتنطلق مظاهرات ثورة الحرية والكرامة التي فاجأت من اتهموا الرجل وحزبه بالمغامرة…
ومن جهة سؤال الفلسفة الذي طرحه ألبير كامو في نهاية كتابه حول موقف سيزيف الظاهر من لا جدوى عمله: هل يمكننا التصور أن سيزيف سعيد!؟ نشهد ملامح ‘ابن العم’ رياض الترك المليئة بالرضا وهو يروي تجربته في دخول العالم السفلي، لنشعر بالاطمئنان على رضا وسعادة الرجل مما فعل حتى وهو يروي عن نفسه أنه شخصية لا تشعر بالرضا عن المنجز ولابد من استمرار العمل، مع حزننا معه وربما سقوط دمعة من عين أحدنا على حيرته في الإجابة على سؤال: موقف ابنته الصغيرة التي حرمت من الأب لمدة ثمانية عشر عاماً من أبيها الذي غاب عنها ورأته يستقبلها في المطار سعيداً ودامعاً لرؤيتها تقدم له أحفاده؟.
[email protected]