تمّ نشر هذه المادة باللغة الانكليزية على موقع TIME بتاريخ 17 فبراير 2022
أحد أيام شباط/ فبراير الباردة في برلين العام 2019 اتصل المحامي باتريك كروكر وطلب مني الحضور في الساعة الرابعة إلى مكتب ECCHR. لم يكن من المفاجئ التواصل مع باتريك فقد كنا نعمل لسنتين على دعوى أمام المحاكم الألمانية ضدّ اللواء جميل الحسن مدير إدارة المخابرات الجوية في سوريا، بالإضافة إلى مجموعة من الدعاوى الاخرى المرتبطة بالتعذيب في كل من السويد والنروج والنمسا، إلا أنّ نبرة صوت باتريك وتحديد الموعد في نفس اليوم كان يخبرني أنّ هناك شيئاً مختلفاً.
بعد قليل من وصولي كنا نجلس بصحبة المحاميان أنور البني وإبراهيم القاسم، حين قال باتريك: اعتقلت الشرطة الألمانية العقيد أنور رسلان بعد أن تقدّم إليها بطلب حماية. لثوانٍ عمّ الصمت من ثقل المفاجأة، ولم تغب عنا الحساسيات التي سنواجهها كون العقيد رسلان من الطائفة السنيّة ومنشق عن النظام. ومن ثم كانت البداية.
كان قرارنا في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير SCM الانخراط الكامل في الدعوى، فهذه ستكون المرّة الأولى في التاريخ السوري التي يتواجه فيها المشتبه به والضحايا أمام قضاء مستقل في مثل هذا النوع من الجرائم. وهي المرة الأولى التي سنتمكن فيها من إثبات أنّ مزاعمنا كضحايا تجاه ما تعرّضنا له من تعذيب وسوء معاملة وما شهدناه من الموت داخل الأفرع الأمنية هو حقائق.
على الفور قام فريق التقاضي في المركز بالتواصل مع بعض الضحايا المحتملين الذين كنا نعلم بأنّهم اعتقلوا خلال العامين 2011-2012 في الفرع 251، ولم يكن صعباً الوصول إليهم إذ أننا نعرف العديد منهم بشكل شخصي، بالإضافة إلى توثيقنا لأكثر من 400 ألف ضحية في قاعدة بياناتنا التي يقوم بجمعها منذ العام 2011 فريق توثيق الانتهاكات في المركز، وتمّ ربط الضحايا الذين وافقوا على الانضمام للدعوى بمحامين ECCHR و OSFJI.
في الحقيقة دون شجاعة الضحايا وتصميمهم لم يكن بالإمكان أن يتم أيّ شيء.
التحدي الأصعب هو كيف نتحوّل من مُجرّد ضحايا يروّون قصتهم، ويقومون بربط الضحايا الآخرين بالمحامين الأوروبييّن، إلى شركاء حقيقيين في صناعة هذه الخطوة التأسيسية على طريق العدالة في سوريا؟
كيف يمكننا أن نحوّل هذه الدعوى من منصة للشكوى ولإظهار المظلوميّة إلى ورشة عمل تطبيقيّة، نتعلّم منها الأسس القانونيّة المطلوبة لإدانة مشتبه به، وكيف نسهم في بناء السرديّة القانونيّة حول التعذيب والقتل خارج إطار القانون الذين كانا ولايزالان أحد الركائز التي يقوم عليها النظام الدكتاتوري في سوريا بشكل منهجي لضمان استمراره في الحكم على مدى أكثر من 5 عقود، وخصوصاً منذ العام 2011، كيف نثبت انّ مشاركة السوريين والمؤسسات الحقوقية السورية هي قيمة قانونية مضافة وليست مجرّد شكل من أشكال المشروعيّة.
وكان هذا عندما طلبت المحكمة شهادتي في 15-16 سبتمبر 2020 لتقديم مجموعة من الأدلة لم يكن تقديمها ممكناً دون الدور الهام الذي لعبه العديد من المنشقين عن أجهزة الأمن السورية، وبعض العاملين في المستشفيات العسكرية والمدنيّة، وخصوصاً المساعد أوّل “فهد الحميد” الذي عمل في الفرع 251 لسنوات طويلة قسم كبير منها تحت إدارة العقيد رسلان، ذاته الأمر الذي مكنّنا من تقديم هيكليّة للفرع /251/ وإدارة المخابرات العامة التي يتبع لها بالاضافة، إلى سلسلة القيادات والرتب تتضمّن أسماء /93/ شخص: منهم /29/ ضابطاً و/45/ صف ضباط و/19/ موظف مدني، عملوا جميعاً في الفرع ما بين آذار/ مارس 2011 وتشرين الثاني/ نوفمبر 2012. ولإثبات أنّ التعذيب وسوء المعاملة يفضي إلى الموت قدّمنا للمحكمة نسخاً من وثائق مسرّبة من مشفى حرستا العسكري ومشفى الهلال الأحمر حول حالات لمعتقلين توفوا في المشفى نتيجة التعذيب الذي تلقوه في هذا الفرع، أو وصلوا إلى الإسعاف بعد وفاتهم فيه. بالإضافة إلى صفحتين من سجل المتوفين في الفرع والتي احتوت اسم المعتقل الطبيب “حيان محمود” الذي فُقِدَ منذ اعتقاله في العام 2012 من قبل الفرع 251 وقامت عائلته بالادعاء على العقيد أنور رسلان في محكمة كوبلنز.
لم يتوقف تقديم الأدلة حول تورّط الجهاز الطبي هنا، فإحدى الوثائق التي قمنا بتقديمها للمحكمة كانت من نوع “مذكرة إطلاع”، مُقدّمة إلى رئيس الفرع /251/ حول خلاف بين عناصر الفرع ومسؤولة الطب الشرعي في مشفى حرستا العسكري حول نقل وتغليف جثث المعتقلين. بالإضافة إلى أنّ الإحداثيات الجغرافية لمواقع /4/ مقابر جماعية في محيط العاصمة دمشق وريفها – كما زودنا بها المنشقون- جاءت متوافقة تماماً مع شهادة الشاهد الذي يُعرف بـ “حفار القبور”.
وقبل أي شيء لابد من الإشارة إلى واحد من أهم الأدلة في الجرائم التي ارتكبت في سوريا – صور قيصر- والذي سنبقى مدينين للمصور العسكري النبيل “قيصر” ولـ “سامي” مساعده في تهريب تلك الصور التي شكلت أساسا لكل الدعاوى التي تتعلق بالتعذيب في سوريا. بالاضافة إلى مجموعة كبيرة من السوريين الذين قاموا بتسريب وثائق اصلية عن اجهزة المخابرات السورية ومنهم السيد “فتحي بيوض” مؤسس موقع زمان الوصل الذي أتاح لنا تزويد المحكمة بنسخة أصلية مسربّة من مراسلات داخلية بين أحد الأفرع الأمنية والإدارة التي يتبع لها، ورد الإدارة على البرقية تتضمن دلائل قاطعة تثبت تسلسل المنهجية المتبعة مع المعتقلين منذ لحظة اعتقالهم مروراً بوفاتهم تحت التعذيب وصولاً إلى دفن الجثة عن طريق الشرطة العسكرية مع اطلاع كامل من مكتب الأمن الوطني الذي يتبع مباشرة لرئيس الجمهورية.
لم يكن الطريق إلى كوبلنز مفروشاً بالسجاد الأحمر بل كان يحمل في كل محطة منه آلام ومواجع مئات الآلاف من الأمهات السوريات اللواتي لايزلنّ يسألنّ عن مصير احبتهنّ. لاتزال السيدة “مريم الحلاق” تطالب بقبر لابنها، ولا تزال السيدة “فدوى المحمود” تنتظر أيّ خبر عن زوجها وإبنها منذ العام 2012 ، ولا يزال المعتقلون في سجون الأسد يواجهون المصير ذاته إلى يومنا هذا. فهذه المحاكمة على أهميتها وإن كانت نجحت في إنصاف عدد من الضحايا ومحاسبة أحد المجرمين، إلاّ أنّها مُجرّد خطوة أولى تأسيسيّة في سبيل محاربة الإفلات من العقاب في الجرائم التي ارتكبت في سوريا، نجحت في نقل قضية المحاسبة من إطار البيانات الحقوقية والتصريحات الأخلاقية إلى إطار عملي تطبيقي من خلال استخدام الولاية القضائية العالمية، وتمكنت من إثبات وقوع هذه الجرائم الجسيمة، ومسؤولية الاجهزة الامنية السورية عنها وفقاً للمعايير القضائية الدوليّة.
وربما سيدفع هذا بعض الدول الأخرى إلى تفعيل أنظمتها القانونية، ووصولاً إلى إنشاء محكمة وفقاً للاختصاص العالمي المشترك بين محاكمها كما حدث عند إنشاء محكمة نورنبرغ، وخصوصاً في جريمة استخدام الأسلحة الكيماوية .بانتظار حدوث انتقال سياسي يتيح للسوريين إنشاء مسار وطني للعدالة الانتقالية، أو مزيداً من العمل السياسي الجاد لفتح باب محكمة الجنايات الدولية. الأمر الذي يقودني إلى سؤال الفاعلين الدوليين وخصوصاً الرئيس بايدن وقادة الاتحاد الأوروبي: هل حقاً تعتقدون أنه سيكون هناك سلام مستدام في سوريا، وعودة طوعية للاجئين، وهزيمة حقيقية للإرهاب دون العدالة والإجابة على أسئلة الأمهات السوريات؟